توقفت العربة أمام بوابة البيت الكبير. كان على السائق ان ينزل منها ليفتح البوابة ومن ثم يقودها إلى الداخل. رحت أراقبه يدفع فردتي البوابة بعزم وبكلتا يديه فقد كانت تتسع لمرور هذه العربة ذات الحصان الواحد. كنت أعرف البيت ولكن من الخارج فقد كانت أمي تتعمد المرور في نفس الشارع في بعض الأحيان أثناء خروجنا للنزهة. كان للبيت جدار عالٍ يحجب أجزاءه الداخلية وباحتيه الواسعتين عن أعين المتطفلين من المارة، كما أن الجدار لم يكن يحتوي على نوافذ أما بوابته فقد كانت تشبه بوابة السجن أو مدخل ثكنة الدرك عند سفح القلعة. وعندما أصبحت في التاسعة قالت لي أمي ونحن نمر بحذاء الجدار العالي إنه في هذا البيت يسكن جدي وجدتي وكل أعمامي وعماتي وأزواجهم وأولادهم. ومنذ ذلك اليوم تحول البيت الكبير إلى لغز غامض بالنسبة لعقلي الطفلي وأصبحتُ أرجوها أن نمر في الشارع لألقي في كل مرة نظرات فاحصة إلى حجارته وبوابته التي لم أرها مفتوحة ولا مرة واحدة. كنت أتعمد البطء في السير لعل أحداً من أقاربي يفتح الباب الصغير ضمن البوابة والمخصص لمرور الأشخاص ولكن، للأسف ظل ما وراء الجدار يشبه إلى حد كبير ذلك المكان الذي ذهب اليه أبي بعد أن تلقى طلقة في صدره فقالوا إنه مات.
استطاع السائق فتح البوابة الواسعة ساعده في ذلك اثنان من الخدم ثم عاد وأمسك بلجام الحصان وقاد العربة إلى الداخل بينما كنت أتأبط حقيبتي أخفي بها وجهي استرق النظر إلى ذلك العالم المجهول الذي سيصبح بيتي. كنت خائفاً مما ينتظرني، أنا ابن الثالثة عشرة الذي لم يتبق لي أحد في هذه الدنيا سوى أمه. ولكنهم انتصروا عليها. كانوا يطالبون بي بعد مقتل أبي ولكن أمي كانت ترفض الانصياع لهم. كان ساكنو البيت الكبير يرسلون رجلاً مسناً ومحترماً يدعى الحاج صالح ليفاوض أمي. ظل هذا الرجل الطيب يأتي ويروح عارضاً البدائل عني ولكنها كانت ترى فيّ أغلى ما في الدنيا. كنت بدوري أخاف أن تقبل ولم أكن أعِ معنى ما كان يردده الحاج صالح وهو أن العائلة تريد ابنها.كنت ابن أمي فما معنى أن أكون ابناً لعائلة تسكن بيتاً كبيراً له جدار عالٍ يزيده غموضاً على غموض؟ أخيراً، وافقت أمي بعد أن سمعت بأذنيها فتوى الشيخ القدير الذي يحتل زاوية في الجامع الكبير محاطاً باستمرار بالأتباع وطلاب علم الشريعة. ما دفعها أيضاً للموافقة هو أنهم هددوها بخطفي.
كان جيش من الأولاد والبنات قد تجمع في الباحة الخارجية ليشاهد قدومي وقد لاحظت أنهم يسترقون النظر أيضاً إلى الخارج قبل أن يفلح الخادمان في إعادة إغلاق البوابة، فقد كنت الصبي الغامض القادم من الخارج، الذي هو لغز بالنسبة إليهم، إلى الداخل الذي هو لغز أعظم بالنسبة إلي.
أُمرت بالجلوس في إحدى الغرف القريبة من المدخل وأغلق علي الباب. كانت غرفة واسعة مليئة بالمفروشات حتى العتبة بينما كانوا قد أحكموا إغلاق النوافذ فتسربلت في عتمة خفيفة لم يبددها ضوء النهار المتسلل من الطاقات العلوية. جلست على كنبة ذات فرش نفيس وأبقيت يديّ تطوقان حقيبتي التي كانت تحوي كل متاعي في هذه الدنيا.
تعرف أبي بأمي في مدرسة الفرنسيسكان. كانت تكبره بعدة سنوات وكانت مسيحية تدرّس فيها مادة اللغة الفرنسية. أحبها الوالد كما كانت تقول لي وهي تزرف دمعتها. كان يرتاد المدرسة ممثلاً لمحلات جدي الذي كان متعهدَ تقديم المواد الغذائية للمدرسة. قالت أمي إنه كان رقيقاً وكانت الأرقام تتأوه عندما كان يقوم بجرد الحسابات. أحبته هي أيضاً بسبب رقته وتأثرها بجرس صوته وعندما أعلن رغبته في خطبتها قامت عليه الدنيا. تحول البيت الكبير إلى جهنم فقد كفر أبي حسب رأيهم. ترك أبي البيت وتزوج مدرسة اللغة الفرنسية. كان يحبها حقاً فقد كان يسرع إلى البيت البسيط الذي استأجراه ليضمها ويقبلها. لم يكونا يأبها لي وقد اعتدت على عناقهما وكنت حين أستيقظ ليلاً للذهاب إلى الحمام كنت أراهما جالسين يتحدثان همساً ورأسها على كتفه. كان البيت الكبير قد تبرأ من ابنه الذي تمرد على السيد ألا وهو جدي ومنع أي كان من مجرد ذكر اسمه. ولكن أبي قتل أثناء تبادل لإطلاق النار بين عشيرتين متناحرتين ومتنافستين على السوق. كان يمر مسرعاً عائداً إلى البيت حين تلقى الطلقة في صدره فمات على الفور، أما أمي فقد ظلت تبكي سنة كاملة وهي حتى اليوم تلبس الأسود حداداً على روحه الطاهرة ولكنها وجدت عزاءها فيّ. كانت تقول لي بما أنني أشبهه فهو لم يمت ولكن المسكينة كان عليها أن تفقدني أنا أيضاً.
دخلت علي امرأتان ترتديان السواد. قالتا إنهما عمتاي، لطفية وفكرية. كانتا متجهمتين، ظلتا واقفتين طوال الوقت وهما تتحدثان إلي. قالتا إن علي أن أنسى حياتي الماضية وخاصة أمي وإن علي أن أكون مطواعاً ومهذباً وأن أتأقلم سريعاً مع قوانين البيت. بعد ذلك نادتا إحدى الخادمات التي قادتني عبر أبواب عديدة وأدراج وسراديب ضيقة إلى غرفة لا تشرف على شيء، بل كانت أشبه بسجن بدون نوافذ ولكنها كانت، لحسن الحظ، ببابين فقد قالت لي الخادمة إنني أستطيع تهوية الغرفة بفتح البابين معاً فيهب تيار هواء بارد ورطب يعبق برائحة التراب.
لم أكن أتصور أنهم أتوا بي إلى هنا كي أسجن، فقد تُركت في غرفتي أسبوعاً كاملاً دون أن يكلمني أحد أو يقوم بزيارتي. ولم أكن أعرف كيف أسير عبر تلك الممرات والسراديب ولا إلى أين كانت تقود تلك الأدراج. فقط، كانت تلك الخادمة تأتيني بالطعام والشراب ثلاث مرات في اليوم، أما حاجتي فقد كنت أقضيها في مرحاض في استراحة أحد الأدراج. كنت أمضي أيامي وليالي مستلقياً على سريري، مفكراً في أمي. وفي اليوم الثامن قادتني الخادمة إلى الباحة الداخلية وطلبت مني أن أعرّض نفسي للشمس وأن ألعب مع أولاد عمومتي إن أردت ولكن، وقالتها بكثير من التحذير، علي أن أعود إلى غرفتي قبل غياب الشمس فجدي لا يحب رؤية الأطفال ولا سماع ضجيجهم حين يعود إلى البيت. تركتني الخادمة ورحلت عندها تجمع حولي عشرة أطفال أصغر مني هم أولاد وبنات أعمامي و عمّاتي وراحوا يمطرونني بالأسئلة حول حياتي السابقة، حول أمي وأبي وحول العالم الغريب عنهم الذي يقبع خارج الدار. ولكن سرعان ما ملّ الأطفال مني بسبب صمتي فراحوا يلعبون بعيداً عني، أما أنا فقد جلست وحيداً متفكراً في حالي وغصة شديدة تقبض على حنجرتي تدفعني للبكاء دون أن أجرؤ على البكاء. وقبل أن أصعد إلى غرفتي تنبهت إلى أن فتاةً في عمري كانت تتلصص علي من إحدى النوافذ لغرفة تعلو الفاصل بين الباحتين.
وفي مساء اليوم التالي سمعت خطوات تصعد الدرج. وما هي إلا لحظة حتى دخلت الخادمة نفسها وأشعلت النور. كنت خائفاً أن تكتشف عدم استغراقي في النوم حتى هذا الوقت المتأخر حسب قوانين البيت. اقتربت من سريري ولمستني. كانت هذه هي المرة الأولى التي تزورني في الليل. فتحت عيني فقالت لي همساً كعادتها إن جدي يريد مقابلتي. انتابني خوف عظيم فهذه هي المرة الأولى التي سأقابل فيها هذا الرجل الجبار. كنت قد رسمت له في عقلي صورة ترعبني إذا ما شاهدتها في منامي ولكن الصورة لم تكن تستند إلى تصور واقعي فلم يكن أحد من قبلُ قد وصفه لي فحتى أمي لم تكن قد قابلته مطلقاً.
قادتني الخادمة عبر الأدراج والممرات حتى الباحة الداخلية ثم عبرناها لنرتقي عدة درجات حجرية ذات درابزين من الحديد المشغول. أوقفتني أمام باب خشبي مزخرف لفترة كي نسترد أنفاسنا ثم نقرت عليه نقرات خفيفة وفتحته ثم دفعتني إلى الداخل. وجدت نفسي في العتبة المنخفضة عن مستوى أرضية الغرفة وفضلت البقاء هناك. كنت أحسب أنني سأتلقى الأوامر فوراً إلا أن الصمت المطبق ولفترة طويلة دفعني إلى رفع رأسي. كان هناك صفان من البشر إلى يمين وإلى يسار الغرفة. النساء إلى اليمين والرجال إلى اليسار بينما كان رجل أبيض اللحية والرأس، يعتمر طاقية قطنية بيضاء ويلف نفسه بعباءة عسليّة اللون تضفي عليه مهابة فوق مهابته، يحتل صدر الغرفة. كل النساء كن يرتدين ثياباً سوداء ويغطين شعورهن بحجاب أسود بينما الرجال يرتدون البدلات وربطات العنق السوداء. كان الجميع ينظر إلي دون أن ينبس أحد بكلمة. لم أكن أعرف أحداً منهم ولم أفرق بين أعمامي وأزواج عماتي وبينهن وبين زوجات أعمامي، إلا أنني عرفت أن ذلك الرجل المسن والمهيب هو جدي والمرأة المسنة التي تجلس قريباً منه في آخر صف النساء هي جدتي.